ولأن وجود المدلول مقيد بالدال، فنحن كـ"موضوع" نتمظهر "ذاتاً" لغوية، وبالتالي فالإنسان وجود لغوي ، فباللغة تكون "الإشارة" وبالتالي التسمية، تبعاً للـ"مصدر"، تعاقبياً (إشارة مصدر)، فيُعطى الإنسان حينها حيزه الوجودي المتجاوز له والمتماهي مع قيمة الوجود الإنساني المطلقة والساعة إلى الخلاص، باعتبار أن "الإنسان يسعى إلى الجمال في كل فعل" –بالمنطق الماركسي، فمثلاً إذا تظاهر جمع من السيدات في الفضاء العام (ولفظة فضاء عام تقتضي الجمع و المساواة في الحضور، وذلك محض افتراض مطلق) يطالبن بحق من حقوقهم، فيصير وجودهن اللغوي محدداً أولاً بـ"هن" (الإشارة) ومن ثم "يتظاهرن" (الفعل الوجودي)، فيصرن "متظاهرات" (مسمى/إسم فاعل)، ولكن تلك الإشارة لذلك الفعل والوجود القيمية له ، لا يتحدد بهن كفاعلات مستقلات عمن هو خارجهن، فمثلاً إذا قرر رجل/ذكر الإنضمام لتلك التظاهرة، باتت الإشارة التي يفترض أن تستند على الأقل لقاعدة العدد: حيث عدد الإناث أكبر في الفرضية اللغوية من عدد الذكور هو ذكر وحيد مهددة و متحيزة، إذ تتحول من "هن" إلى "هم"، وعليه يصير الفعل الوجودي : "يتظاهرون" فصاروا "متظاهرين".
أي أن فردا ذكراً واحداً يعادل وجودياً وذاتياً وموضوعياً بل وقيمياً جمعاً من السيدات بفضل تحيز اللغة ومؤسسيتها الذكورية.
إن التذكير في اللغة هو الأصل، وما كان له أن يكون كذلك لولا أن التأنيث هو الفرع، وبالتالي نصل لحالة من "التعريف بالسلب"، فتتحول الذات المذكرة لمذكرة لا لذاتها فقط إنما لتأنيث واقع على الآخر، بلفظ آخر: أنا أنا لأنها هي هي، وليس لأنني أنا من أنا (الذات ليست ذاتاً لذاتها إنما لأن الآخر آخر).
وذلك التأسيس الجنوسي في اللغة هو تأسيس سلطوي في الخطاب، يهدف إلى السيطرة على "حيز الوجود" للذات المؤنثة"، أياً كان ذلك الخطاب، أو كما قال ابن كثير على العلم –كخطاب- في "البداية النهاية": "العلم ذكر لا يحبه إلا الذكور و يكرهه مؤنثهم".
ولأن حضور الأنوثة في الذات الإنسانية محكوم بالبنية اللغوية السلطوية التي تمارسها الذات الذكورية، بات جلياً لماذا كانت اللغة أول المؤسسات الفحولية وأقواها وأكثرها قمعاً، وتفريخاً للكثير من الأنساق الثقافية الفحولية والتي منها للمثال لا الحصر الدين (ومنه انبثق المعبد/الكاهن). وكيفما كانت تلك السلطة الثقافية الممنوحة للذكورة: جسدية، جمالية ، أخلاقية ، اقتصادية .... إلخ، إنما تتحدد بـ"الآخر" الذي تقع عليه، وبالتالي بات تحديد الذكورة كمركز للقوى في "ذات"ـها وما تمنعه عن "آخر"ها، كثبوت والاستقلالية الدلالية كعلامة، فنرى في الإنجليزية مثلاً:
Man
وهي علامة دلالية تامة المعنى تقوم بذاتها، تعبيراً وصفياً و إدراكياً: تسمية للذكر، أما:
Woفهو مقطع صوتي لا يقوم بذاته لا من ناحية الدلالة ولا العلامة، ولذا وجب إلحالقه بالذكر التام الدلالة والعلامة ليأخذ معناه ووجوده الأنثوي، وهو ما يعرف بعلاقة: الطرفـ/ المركز، فتصبح:
Woman
أي أن القمع هاهنا لا يدرس من ناحية تأثيره المباشر على الإدراك الذاتي للذات، ولكن من حيث ما يستثنيه ويمنعه، وهو الوجه الآخر للعنف أو مالا يقال من القصة–بحسب باربرا ويتمر: الإدراك الآخروي للذات. وهو ما يمكن ملاحظته في الأسبانية والفرنسية كذلك، وهو أقرب ما يكون من حيث الدلالة المعنوية لعلاقة المركز الطرف إلى السرد الأسطوري الشهير عن خلق حواء من ضلع آدم.
(بعيداً عن تهافت منة الثقافة الاقوى على الضحية بالقول الثقافوي: أن حواء خلقت من ضلع يحمي القلب).
وماذا أكبر من سلطة الوجود والقيمة الإنسانية، لتصبح استحواذاً ذكورياً يعطي كامل السلطة والقوة للذكر من قصة "خروج آدم و حواء من الجنة" في سفر التكوين، التي كانت مبتدأ الوجود الإنساني والقيمة في سؤال الإنسان عن ذاته. وهنا كما سيتضح معنا ، يكون مبتدأ الإدراك الإنساني متحيزاً، لبناء نسق سلطوي إدراكي ذكوري.
إذ كانت هناك "أربع ذوات" عاقلة واعية لنفسها في الحدث: الرب وآدم وحواء والأفعى، وهي ذوات تتشابه في أنها تعرف نفسها بنفسها فالأفعى ليست آدم ولا حواء ولا الرب مثلاً، وبالتالي فأول الظهور لتلك الذوات هو التعيين والإدراك :"التسمية اللغوية"، على خلاف شجرة المعرفة وشجرة الخلود ، فكلتاهما من جنس الشجر، ولكن كذوات لا يعرفون أنفسهم بأنفسهم، أي دون وعي ذاتي بالذات.
وهو المتحقق في "المعرفة"، حيث أن آدم و حواء لا يعرفان ماذا بعد التفاحة؟ فالمعرفة هاهنا موجودة في حيز المطلق الإلهي ليس النسبي الإنساني، أي أنها ذات لاجنس لها، خرساء نائمة، مغتربة في التفاحة، خارج منطق سلطة الخير والشر أو الصواب والخطأ ، أي أنها معرفة متحررة من قيد الثقافي وبنيته الهيراركية.
إن غواية الأفعى لحواء اعتمدت على "ميل" ماعند حواء للإستكشاف والخروج عما لا يجب الخروج عنه وهو "أمر" الرب. فالذات/الأنا يمكن أن "تميل"، وذلك الميل هو الذي يؤسس لقدرها وهويتها ، فميل الشيطان/الأفعى للنار هو الذي يؤسس لقدره، فالنار لا تستطيع البقاء دونما أن تتغذى على غيرها، وبقاؤها في فناء غيرها، بينما الملائكة بهم ميل للنور، يسيرون في خطوط مستقيمة لا تعرف الميل عما طلب منهم.
والوجود والحوار الإنساني مع "الميل" هو أصل القيمة الإنسانية، فمثلاً "الوصايا العشر" في جوهرها هي "لائحة من الميول الممنوعة" تواترت على اختلاف التقديسات الخطابية بين وصايا عشر وخطايا سبع وغيرها. وهنا يأتي الميل الأنثوي للتحرر والإبداع وكسر القيد والبنية الرأسية التي أسست للمعبد، وبالتالي كسر النسق المؤسس لفكرة "الصواب/الخطأ" أو "الخير/الشر" بالمنطق الثقافي، حيث ذلك الميل الأنثوي إنما هو عودة بالمعرفة والفكرة إلى حيزها المطلق/الإلهي/الجناني. وبالتالي كان التعري هاهنا ليس في منطق "العري" ، إنما في منطق المعرفة، فإدراك آدم و حواء لعريهما لم يكن ليكون قبل المعرفة/الأكل من التفاحة ، أي أنه منطق ثقافوي ، فالعري يتحقق بالمعرفة إذ تتحول إلى سلطة التحريم و المنع و ليس قبل ذلك/قبل تناول التفاحة.
وهنا وجب تدخل اللغة، فبمجرد الأكل من التفاحة، وبالتالي الخروج من الجنة (حيث لم يرد في أي سرد زمنية فارقة) وإنتقال المعرفة إلى حيز اللغة والوجود الإنساني/اللغوي، ظهرت فكرة السلطة والقمع في الخطاب لصالح الذكر (يذكرنا ذلك بربة الشعر التي تحولت إلى شيطان شعر، فنزعت عنها أنوثتها لا شعرها)، فقمعت الأنثى لصالح التنافس الذكوري النسقي بين الشيطان إذ نزع عنه تأنثيه "الأفعى"، و آدم:
1.الغواية: يمثلها الشيطان/الذكر (حيث لم تخرج الأفعى لضوء المنافسة حتى في سفر التكوين).
2.القانون: يمثله الرب/الذكر اللغوي (كما سنرى تباعاً).
3. الإنسان: يمثله آدم/الذكر (وهنا تم استحواذ الإنسانية لصالح الذكورة فباتت الأاصل في الأمر لغوياً).
ويبدأ معه الإتفاق الذكوري تحت غطاء المنافسة على قمع الأنثى والميل الأنثوي ، فتصير الاستجابة لذلك الميل مستحقة للنار وصحبة الشيطان، وقمع ذلك الميل المؤنث هو عين التقرب إلى الله الذات المطلقة واسترداد الجنة التي أضاعها إستماع الإنسان/في صورة آدم/الجذر إلى ميله الطاريء على أصله من روح الله لكسر قانون الرب.
وهنا تبدأ عملية إنتاج الأنساق القمعية، عن طريق تفحيل الآلهة وتقديس الذكورة وتأصيلها إنسانياً، وثقافوياً، فلم نسمع يوماً عن نبي أنثى، حتى أن كلمة "نبي" لا تأنيث لها. ونرى الكثير من الأديان التوحيدية والوضعية، تتعامل مع التأنيث باعتباره الطرف من المركز المذكر، أي أنها علاقة سلطوية، فنرى قوانة مدعاة للرجل، و طهراً له يقابله دنس أنثوي . ويصبح التدين والنزوع إلى الجذر التوحيدي للخلق، أو الروح التامة له: الله، هو فعل ذكوري قطيعي، فمثلاً تصبح الصلاة وهي التي في ذاتها وأصلها فعل فردي روحاني بالمقام الأول، تمظهراً لغوياً في الفضاء العام، تتبع سيرورة "الجمع المذكر السالم" بالتمام أو ما يقاربه، وهي صيغة لغوية يشترط فيها أن تكون من علم مذكر عاقل خال من تاء التأنيث الزائدة (لاحظ/ي كلمة "زائدة")، وهي شروط مشددة تحصن الذكورة من شوائب التأنيث والحيوانية معاً، والمعية هاهنا معية ثقافية /سلطوية/رأسية، تعرف الأعلى بالأدنى، قائمة على أن الحيوانية دونية بالقطع و الإطلاق. فحينما يشترط أن يكون (عاقلاً) هو إحالة إلى معنى حساس يشرحه عباس حسن في كتابه "النحو الوافي" قائلاً:
"ليس المراد بالعاقل أن يكون عاقلاً بالفعل، وإنما المراد أنه من جنس عاقل كالآدميين (والنسب هنا إلى آدم وليس إلى بني البشر) والملائكة، فيشمل المجنون الذي فقد عقله، والطفل الصغير الذي لم يظهر أثر عقله بعد. وقد يجمع غير العاقل تنزيلاً له منزلة العاقل. إذا صدر منه أمر لا يكون إلا من العقلاء فيكون جمع مذكر".
وهنا يحق للطفل وللمجنون والطفل وكذا الحيوان الذكي (!!) أن يدخل قلعة المذكر السالم ، أما الأنثى فلا، وهو ما يعود بنا إلى المنطق الفوكوي–نسبة إلى ميشال فوكو في تحليل الخطاب الذي يتناول العقل والجنون باعتباره خطاب قمع وسلطة. وهو بالضبط ما تم اتجاه الدين بمعناه المطلق، وتحويله إلى نسق ثقافي/ سلطوي /فحولي (وليس فقط ذكوري) ولي عنقه، وباتت فيه الآلهة بمعناها المطلق المتحرر، عرضة لعمليات مكثفة من التفحيل اللغوي، فبات "الله" وهو اللفظ التام المعنى والدلالة والجلالة المتحرر من قيد الجنوسة (تذكيراً و تأنيثاً) بالإطلاق والإلمام معاً، محاصراً بتسعة وتسعين فحلاً لغوياً لإدراكه ، فبات "عليماً" لا بعلمه فقط وإنما بجنوسة ذلك العلم الثقافية، وكذلك "الرحيم" "الكريم" "العطوف" "المنان" إلى آخره من الصفات والإشارات الفحولية، وهو ما نسميه حصاراً فحولياً مادياً للذات الالوهية المتجاوزة.
***
إن الاستماتة اللغوية في تعريف العلامة التامة بنقيضها، وإن انطلقت من حتمية أن "العلامة تحمل نقيضها معها" كما قال الجرجاني، إلا أنها تعمد إلى تجاوز ذلك وتحرير العلامة الذكورية و إلحاقها وهي النسبية بالمطلق ، في مقابل تصنيم من "صنم"-المقابل الأنثوي لها، وتقييده بثبوت متدن أمام المطلق المتجاوز الذكر الأقوى وكيل الرب. وهو ما يمكننا رصده في كل مظاهر الثقافة التي تناولت تلك اللحظة الوجودة المؤسسة للتجربة الإنسانية ككل: لحظة الخروج من الجنة/المطلق.
فنرى أن تناول الذات الإنسانية المؤنثة في تلك اللحظة إنما هو تناول يعتمد على الثبات الصوري نسبة إلى الصورة وإن ظهر متدرجاً، لصالح درجة أكثر تحرراً وسيولة فيما يتعلق بتناول وإدراك الذات الذكورية، وهو ما يخدم مقولة الناقد الإنجليزي داني شيشتير: "كلما زادت المشاهدة قلت المعرفة".
فتشكيلياً في العصور الوسطى تم تناول السرد فيما يتعلق بالخروج من الجنة في حيز زماني ومكاني كبير فنياً بشكل نسبي، فلننظر مثلا إلى لوحة "السقوط و الخروج من الجنة " للرسام بول دي لمبورغ، في القرن الخامس عشر:
["السقوط والخروج من الجنة" لـ دي ليمبورغ]
حيث نجد نوعاً من المساحة السردية تشكيلياً، تضمن ولو بدرجة متدنية القليل القليل من الحرية الغير خارجة عن النسق السردي خطابياً.
ثم يأتي مايبوس في القرن السادس عشر ليصور لنا تشكيلياً المشهد ولكن ضمن فضاء سردي يكاد يكون معدوماً، ويكثف عناصر الثبات الصوري، في لوحته "آدم و حواء"، محققاً مقولة شيشتر السابقة، والتي انطلقت لتنطبق على الثقافة الخطابية التلفزيونية:
وفي تمظهر آخر، في لوحة "الخروج من الجنة" لتوماسو دي سير جيوفاني كاسي (ماساجيو)، والتي كما يوضح اسمها تصف الخروج من الجنة، نجد أن الرائي/المشاهد يرى/يعرف دلالة الموقف من عناصر مختلفة في الصورة/الخطاب التشكيلي، فنرى تباكي آدم إذ يغطي وجهه وهو مناط الهوية التعبيرية الأول إنسانياً، فأول التعبير الإنساني جسدياً هو الوجه، وهو الذي يميز البشر من بعضهم، وبالتالي فدورة في تحديد الهوية الفردية يعد الأقوى من عناصر الجسد لصالح الإنسان/الفكرة: الهوية، بينما حواء تتباكى في الوجه بوضوح، بينما ذاتها "ميلها" الإنساني إنما هو ميل جنسي/مادي/فيزيولوجي، يؤسس لفكرة أن ذلك الميل هو العورة، والتعري ومنطق خروجنا من الجنة، وهو ذات المنطق الذي يؤسس لقداسة تشييء المرأة وتسليعها كجزء من جغرافية الجنة ومتاع الدنيا، فهي بيولوجيا مادية وليست إنسانية متجاوزة القيمة.
["طرد آدم وحواء من الجنة" لماساجيو]
(وهنا تعيد الثقافة الذكورة تجبرها و منتها على الضحية ، فتسمي الحجاب و النقاب مقاومة ، في حين أنه لا يكسر خطاب القمع الذكوري بل يؤسس له أكثر):
ومع تنامي علمنة الثقافة مع بدايات عصور التنوير، لم يتم تحرير الأنثى من سطوة الفحولة الثقافية، مع أن العلمانية تقوم في ذاتها على تفسير الظواهر بما فيها لا بما يتجاوزها، ولكن تظل العلمانية نسقاً ثقافياً يخضع لبنية السلطة في جسد الثقافة الإنسانية عموماً، والبنية اللغوية خصوصاً، فباتت العلمانية وسيلة لتحرير الصورة وليس تحرير الأنثى، أي أنها لم تستطع من الأمر شيئاً.
وكان من الطبيعي أن ينتهي الأمر بالأنثى المسورة من السور بالصورة، إلى نماذج مثل الموناليزا بنظراتها الملغزة، والمتروكة للتأمل الثقافي الذكوري، ثم السينما ونموذج مارلين مونرو اللعوب الفاتنة، وتصدير تلك الدرجة من الثبوت الصوري في موقع الطرف من المركز الذكوري: الرجل الواقع عليه كل تأثير الفعل الوجودي الأنثوي.
فكانت عناصر تثبيت المرأة الجسد/الميل للخطئية وكسر القانون، في صورة تسعى لنيل رضا الرجل/الذكر في المركز: مثل مسابقات الجمال والطبخ، المباركين من الثقافة الذكورية البيضاء.
حتى في الحب والعشق ، نرى الرجل إذا ران الإكتمال بمعشوقته، بات مجازاً غير متحقق في الواقع، و الموت خير ثبوت لها في السعي لحرية الذكر المجازية وانقلابه على قيده، مما يستلزم على العاشق في خطاب العشق أن يتحول من كائن واقعي إلى كائن مجازي، فهو ذليل ومجنون ومقتول، وتتحول مهمته في الوجود من رجل عمل ومسؤولية إلى ذات فاقدة لكل شروط البشر السوي مجتمعياً. ومن أدق شروط هذا التكوين المجازي ألا يتزوج العاشق معشوقته لأن هذا الرابط العشقي هو رابط نفي وإلغاء وليس رابط إثبات وتأكيد. كما أن من شروطه تعاسة الاثنين العاشق والمعشوق: ما بأيدينا خلقنا تعساء ( كما في أطلال إبراهيم ناجي )، ولكي يفقد الرجل عقله ولبه وحياته ولكي يتحول إلى كائن ضعيف مستلب لا بد من أن يظل بين/بين، فلا هو هنا ولا هو هناك، ولا هو ممسك بعاشقته ولا هي ممسكة به،ولا هو سال عنها ومنصرف، إنه خطاب في الخروج والاغتراب وليس في الوجود والتحقق، ولكي نتصور هذا فلنقرأ قول جنادة:
من حبها أتمنى أن يلاقيني / من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له / وتضمر اليأس نفسي ثم تنساها
ولو تموت لراعتني وقلت لها / يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها
هنا تتجلى فكرة التحويل المجازي فهو لا يريد حبيبة متحققة، لأن من شرط الحب المجازي هذا ألا يتحقق عمليًا، ولكي يضمن عدم تحققه فإنه يتمنى لو أن خبراً يأتيه يقول إنها قد ماتت لكي تتأكد له (لا واقعية) هذه المعشوقة، وهذا الفقد هو لتحقيق الفراق، بما أن اللقاء ليس من سمات خطاب العشق. غير أن هذا الموت المتمنى سيحرمه من معشوقة مجازية، ولذا فإنها لو ماتت فعلاً فسيدعو على الموت ويا بؤس له ليته أبقاها، وذلك لكي تظل صورة مجازية لحكاية يهم الشاعر بصناعتها ولا يريد تحققها، من جهة، ولا يريد زوالها، من جهة ثانية.
"إن ميل حواء إلى أكل التفاحة هو ميل لقطع المسافة التي تفصل المعرفة النائمة اللاواعية في التفاحة عن الرب كأعلى أشكال الوجود وعياً بذاته؛ إنها رحلة بين الأرض و السماء، بين موضوع التفاحة ووعي الرب الخالص".
حسين البرغوثي، "الفراغ الذي رأى التفاصيل"