Monday, December 9, 2013

الوعي بمأزق الأنثى


نعود من جديد للتفسير المتسرع لعبارة سلوى الشهيرة "عاوز أقعد جنبك.. مش وراك"، والذي أجزم الكثيرون بثقة أحسدهم عليها أنها توضح تحرر الفتاة وسعي صانع الفيلم لتكريس فكرة المساواة بين الجنسين. والحقيقة أن العبارة بارعة الصياغة تحمل داخلها بالفعل إذا ما تم تناولها بشكل مجرد بعيدا عن سياقها هذا المعنى ذا الصبغة "الحقوقية"، وتبدو العبارة صالحة لأن تستخدم كشعار نسوي عابر للزمن، ولكن المواقف الحقوقية دائما ما تكون أحادية الموقف، وسينما محمد خان أبعد ما تكون عن الأحادية أو التبسيط، بل إن قوتها الفكرية الأساسية تنبع من إمساكها بزخم الحياة وتفاصيلها وتناقضاتها، لهذا فإن علينا أن نعيد النظر لموقف سلوى، والذي يحمل ككل ما في فيلم خان الأول، بذورا للاتجاهات التي سنراها بوضوح لاحقا خلال مشروعه السينمائي.

فأزمة المرأة في المجتمع المصري لا يمكن تلخيصها في وجود تفرقة بين الذكور والإناث، ولا يمكن اختزالها في فتاة ترغب في الجلوس بجوار حبيبها بدلا من أن تجلس وراءه. المرأة في مصر تعيش واقع أعقد من ذلك بكثير، واقع يتاح لها فيه المساواة بل والتفوق على الرجل في بعض الأصعدة، بينما تسلب حتى من حق التفكير في أن تكون ندا له بأصعدة أخرى، تماما مثل سلوى، التي تملك بداخلها بذرة التمرد والمطالبة بالحرية، والتي تتضح من شخصيتها التي نفهم أبعادها تباعا، ومن علاقتها المفتوحة بحبيبها التي نراها من اللحظة الأولى بصورة صادمة لثوابت المجتمع، ولكنها في نفس اللحظة محاطة بالكثير من الضغوط: تحكم أسرتها التي تصل لمواعيد عودتها للمنزل، نظرة العالم المحيط لها، والأهم هو الثقافة التي تشربتها منذ الصغر، والتي تجعلها وإن كانت تحب فنانا بوهيميا وتؤمن بموهبته وتخالف قواعد المجتمع معه، إلا أنها لا تزال محتفظة بالرغبة في الحصول على حياة مقاربة لحياة بني جنسها من الفتيات المصريات، حياة أقل جنونا وأكثر أمانا، حياة لا يعد الجلوس بجوار الزوج فيها دليلا على المساواة، بل على محاولة للجمع بين حسنيين: الحب الحر والحد الأدنى من الأمان المجتمعي.

هذا الوعي بمأزق الأنثى هو أحد العناصر الكثيرة التي لم تجعل "ضربة شمس" مجرد فيلم أكشن جماهيري آخر، ولكنه عمل أكثر عمقا وارتباطا بالواقع بما يفوق مئات الأفلام التي تسرد حكايات دراما اجتماعية يظن من لا يعلم أنها واقعية تطرح قضايا اجتماعية، ولكنها في الحقيقة تتعامل مع هذه القضايا باستقطاب صارخ، ينطبق عليه ما قاله المخرج السوفيتي الكبير أندري تاركوفسكي عن هذه النوعية من الأفلام، عندما قال وكأنه يصف سينما محمد خان "تفسير ذلك هو أن نمط الحياة شعري أكثر مما هو ممثل أو مصور أحيانا من قبل المدافعين بعزم عن الطبيعية. الكثير مع ذلك، يبقى في أفكارنا وقلوبنا كاقتراحات غير متحققة. عوضا عن محاولة الإمساك بالفوارق الدقيقة التي لا تكاد تدرك، فإن أغلب الأفلام الواقعية البسيطة، لا تتجاهل هذه الفوارق فحسب إنما تصر على استخدام صور حادة وصارخة ومبالغ فيها، والتي في أفضل الأحوال يمكنها فقط أن تجعل الصورة تبدو بعيدة الاحتمال". ومن بين كل مخرجي السينما المصرية، خان هو أحد أفضل من أمسك بهذه الفوارق الدقيقة التي لا تكاد ترى، لا سيما فيما يتعلق بصورة المرأة في أفلامه.

فالمرأة في سينما خان ليست امبراطورة مسيطرة وليست مظلومة مستضعفة، إنها مزيج من كل هذا وأكثر، إنها إنسان يعيش سياقا معقدا يغير موقف العالم منه في كل لحظة عن سابقتها. من نفس المنطلق يمكننا إعادة النظر للكثير من الشخصيات النسائية في أفلام المخرج الكبير من زاوية مختلفة، فعلى سبيل المثال يمكن إعادة تقييم موقفنا من منى بطلة "زوجة رجل مهم"، والتي يراها البعض ضحية لزوج مهووس بالسلطة وضعها في قائمة ممتلكاته دون التفكير في مشاعرها. ولكن إذا أعدنا مشاهدة الفيلم دون أحكام مسبقة، فسنجد أن هشام على الأقل في المراحل الأولى من علاقته بمنى، كان بالفعل زوجا محبا مخلصا يتمنى السعادة لزوجته، بينما كانت هي مراهقة حالمة بالحب، مستعدة لأن تقع في حب شاب يشع ذكورة وسطوة مثل هذا الضابط الشاب. مأزق منى لا يمكن تلخيصه في اعتبارها ضحية، لكنه هو الاخر يقع في نفس مساحة الفوارق الدقيقة التي حولتها من مراهقة تستجيب بسعادة لرغبة ضابط وسيم في الزواج منها، إلى سيدة بالغة تعاني من حرمان عاطفي سببه تحول نفس الضابط بحكم حياته الجديدة إلى شخص أكثر تجبرا، يؤمن أن لديه دائما ما هو أهم من اهتمامات زوجته ورغباتها.

يمكنك بنفس القياس أن تنظر لكل شخصيات خان الأنثوية، وعلى رأسها نوال البطلة الوحيدة التي صدر خان فيلمها "موعد على العشاء" بإهداء موجه لها شخصيا، فهي نموذج مثالي آخر لفهم المخرج الكبير لمأزق الأنثى، فهي امرأة ظلمها كل من حولها، ظلمها الثري الذي أراد الزواج منها فاغتصبها لتقبل رغما عن أنفها، وظلمتها والدتها عندما دعمت هذه الزيجة وسعدت بها، ولكنها رغم تعاستها تبدو قوية، نبيلة، غير مستعدة للاستجابة لدعوات صديقاتها اللاتي يحاولون تبرير خيانتهم لأزواجهم ويدعونها أن تحذو حذوهم. لاحظ هنا أن المحيطين بنوال هم ذكر وحيد والعديد من النساء، فهي وإن كانت ضحية لسلطوية ذكورية واقتصادية إلا أن العدد الأكبر من المشاركين في قمعها ودفعها للخطأ من النساء، بل ونساء يفترض أن يكن أقرب المقربات لها: أمها وصديقاتها، وهي الخيارات التي تؤكد من جديد على تعقد السياق الاجتماعي، وصعوبة التعامل مع مأزق المرأة بمعزل عن المرأة نفسها.

فوزية "موعد على العشاء"، نجاح "مشوار عمر"، هند "أحلام هند وكاميليا"، وردة "الغرقانة"، وغيرهن من نساء عوالم خان، كلهن صور متعددة لاستيعاب المخرج الكبير ومن تعاون معهم من كتاب سيناريو موهوبين لما أوضحناه من تعقد لمأزق الأنثى المصرية، والذي يصعب تخليصه أو وصفه أو الدفاع عنه بأي موقف "حقوقي" يرى الأمور بالأبيض والأسود، فالمرأة في عالم خان لا تبحث عن حقوقها، ولكنها تدافع عن مساحتها من الحياة، وتخوض صراعات مع نفسها ومع العالم المحيط للتمسك بهذه المساحة مهما كانت العوائق التي تلاقيها، وهو موقف لا يمكن أن يتبناه مخرج يرى العالم من بعيد، ولكنه بحاجة لمبدع حقيقي، معجون بالمجتمع ومشكلاته وتفاصيله، قادر على نقل هذه التناقضات للشاشة، ولم يوجد من تنطبق عليه مثل هذه الشروط أكثر من محمد خان.


من دراسة لأحمد شوقي حول "سينما محمد خان"

No comments:

Post a Comment