الزمن الماضي
اعتدت في فترة ما على متابعة الخطب الدينية السلفية بدروسها المتنوعة في سبيل البحث عن الجنة ..الأرضية على ما يبدو.
و أذكر أن أحد الدروس كان عن دعاة تحرير المرأة "إقبال بركة، نوال السعداوي...الخ"...لم يكن الأمر درسا، هذا الوصف سيكون كريما، لكنه كان مجرد وصلة طويلة من الردح مبنية على ذاكرة فولاذية لكل ما قالته أي منهن و الرد على أفكارهن "الغربية الفاسدة" ببعض العبارات المهينة و الألفاظ ذات الإيحاءات الجنسية كما يطيب لنا دائما!
هل تضمن الدرس أي عرض لأي فكرة أو مناقشة لها؟ على الاطلاق، هي مجموعة من الجمل المبتورة تليها استطرادات و استنتاجات لنوايا هذا الخطاب الهادف لتدمير المجتمع و الأسرة...الخ مكللة بالمجهود الفردي للشيخ في تحليل الخطاب أيما تحليل.
الهدف الأول من الدرس لم يكن النقد الفكري بل كان السب و القذف و الترويح عن جموع المؤمنين المستمعين على طريقة النكتة الجنسية تحت شعار الاشتباك مع قضايا المجتمع الواقعية.
كان هذا متسقا مع الصورة المقدمة للمرأة المثالية بهذا النوع من الخطاب الديني على أنها "التي لا تبرح بيت أهلها إلا للزواج و لا تبرح بيت الزوج إلا للقبر" فما بالك بمن تطالب بحقوقها، هي حتما منحرفة أخلاقيا.
المتعاطف مع الخطاب السابق هو المقتنع بهذه الآراء من ناحية دينية كانت أو سلطوية المهم أنها توافق هواه، و التي يجد بها لذة في الاستماع، فالملاحظ أن هذه النوعية من الدروس تشهد ضحكات متزايدة من كل المستمعين-الرجال غالبا- ترتج معها كروشهم و لحاهم مع الشيخ الذي يصف تفاصيل المشاهد الجنسية الساخنة بالأفلام و ما كانت ترتديه البطلة ليحكيها ثم يعلق عليها بأنها حرام! كما أنها أمور مريحة عقليا فلا هي فكر و لا فلسفة، لن تحتاج لتحضير مسبق من الخطيب و تحقق الاحساس بالتفوق الأخلاقي للمستمع فهي زانية إلى النار أما أنا فسأدخل الجنة.
المنتج الاعلامي
مع تزايد الوعي بما يدور في المجتمع، نمو المعارضة كان عاملا أساسيا في معرفة خفايا كثيرة، منها أن الشيخ السابق مثلا ليس غيورا على الدين و الأخلاق و القيم لكن هذه الدروس تسجل معدل مشاهدات عال و بالتالي فهي مفيدة للبيزنس الذي يديره، كما هي القضايا التي ترفع تحت مسمى إزدراء الأديان و الحسبة و غيرها فهي وسائل مضمونة للشهرة لأنها تختصم دائما شخص معروف بالمجتمع...الشيخ يوسف البدري نموذجا
كما أن تلك القضايا في رواية أخرى وسيلة جيدة لتشتيت الشعب و شغله بأمور جانبية يتسلى بها عن قضاياه الحقيقية و التي لم و لن يقف الشيخ مدافعا عنها و لن يأتي على ذكرها أبدا!
لقد تم تحضير المنتج و تم تسويقه إعلاميا و بعد الكثير من المناقشات سيتوقف الجميع لحظة -لو انتبهوا- ليسألوا ماذا كان سبب الحوار من البداية؟ فلن يجد أحد الإجابة فيتم البحث عن منتج جديد و هكذا.
الثورة تسقط الأقنعة
إلا أن الأمور صارت أوضح لكن أكثر تعقيدا من السابق بعد الثورة، فبعد أن كان هناك القليلين ممن يعرفون خلفية كيف تسوّق المنتجات الاعلامية في مصر من خلال متابعة بعض جرائد المعارضة و التي تحتمل الصدق والكذب-لم يكن يعرف أحد يقينا- سقطت أقنعة كثيرة بعد الثورة، كما لو كان الحدث بمثابة جهاز كشف الكذب، فتحدث الجميع بلسانه و ظهر لمن الولاء اليوم. الشيخ ينافق و المعارض يصمت و صاحب المنصب يعترف بأنه كلنا يا عزيزي لصوص...
و اختلفت رؤية الناس لمقاييس الصواب و الخطأ و ظهرت عدة تعريفات لكل القيم الأخلاقية التي ظنوها على ثبات في حياة سابقة كانت ثنائية القطب ما بين خير و شر أما الآن فصار للخير درجات و صور مختلفة كما للشر أيضا!
و تجلى هذا في التساؤلات التي صاحبت جولات الثورة المتعددة في البحث عن من معه الحق لنقف بصفه؟! و التي شهدت حيرة متكررة و مواقف مترددة!
القياس الفاسد
أحد أسباب تلك الحيرة هو القياس الفاسد الذي يلجأ له البعض من أجل الوصول لاتخاذ موقف تجاه حادثة ما، فمع تعقيد الأمور لم تعد تصلح الأحكام المطلقة الحاسمة و في محاولة لإسترجاع ثنائية الأمور مرة أخرى، وجب البحث عن الصورة المضادة ليمكن الجزم بأن ما ضد هذا هو ذاك، لو أنني فقط استطعت التأكد من جانب أسود فالجانب الآخر هو أبيض حتما..انتهى الأمر.
على سبيل المثال كانت قضية سميرة إبراهيم و التي ظهر بها الظالم و المظلوم بجلاء لم تجد مساندا لها سوى أعداد قليلة تخطت بعقولها حدود ما فرضه المجتمع من مرادفات معينة لل "مظلوم المثالي" الذي يمكن أن نسانده. جاء القياس الفاسد في قضيتها بزعم أنها تستحق التعاطف لأنها الفتاة التي ثارت من أجل الوطن و لم يدافع عنها هذا الوطن حين انتهك شرفها في مقابل موقف علياء المهدي التي "تعرت بإرادتها".
الأمر تكرر في موقف إلهام شاهين فهي التي "تعرت بإرادتها في كل أفلامها" و تشغل قضيتها الرأي العام و يتصل بها الرئيس "الاخواني" ليطيب خاطرها مما بدر من الشيخ في حقها من إهانات و إتهامات بالزنا و هو ما لم يحدث مع فتاة التحرير مثلا!
و ما أسعى لنقده هنا ليس موقف السلطة التي توازن مواقفها و تصب اهتمامها حسب أهمية الشخص لكن حول موقف الشخص العادي الذي على أقل تقدير يريد جانبا ينضم إليه و يعلن موقفه مما يحدث و لو بين أصدقائه، و الذي مازال يجد صعوبة في إصدار أحكام بناء على مواقف مركبة بعيدة عن ثنائية الخير و الشر أو الصواب و الخطأ السالف ذكرها.
القياس الفاسد يبدأ بوجهة نظر شخصية، فلا يلتفت للمبدأ العام "الدفاع عن الحرية، الفن، ...الخ" بل يبدأ كالتالي
قياس يبدأ بفرضية أخلاقية واضحة،
العهر صفة خاصة بالمرأة و العاهرة هي من تتعرى بمحض إرادتها باسم الفن
إلهام شاهين فعلت ذلك
إلهام شاهين عاهرة
إلى هنا النتيجة مرضية تتفق مع المقدمة تريح أي فرد من عناء التفكير لكن يتعقد الأمر لو سئل التالي:
لكن هل ما قاله الشيخ يعد دينا، أين قذف المحصنات؟ هل يسعى للشهرة أم ينتقد حقا؟ و لِمَ تذّكرها هي و غيرها فجأة؟ أين الأمور الهامة التي يجب أن يناقشها من منطلق تخصصه؟
الخروج من المأزق الأخلاقي يكون بالانتقاص من قيمة الشخص لعدل كفة الميزان مرة أخرى فهي مثلا لا تقدم فنا يرجى له قيمة و بالتالي لا يستحق الدفاع عنها فيكون الرد/ و هل يجب أن يكون الفن هادفا؟ ما لا يعجبك لا تراه!
إذن فلتكن المقارنة بينها و بين أخرى "فاضلة" لبيان الفرق الواضح
لقد أخذت من الاهتمام ما فاق ما أخذته قضية الفتاة التي تعرت بالميدان في سبيل هدف نبيل و هي من الفلول! (كما يمكن إحالة أي قضية للأولويات لتجنب النقاش)
هل نحن ندافع هنا عن مبدأ عدم اهانة أي إمرأة أم نتعاطف مع الإهانة بشروط؟! و هل نطالب باهتمام إعلامي متساو للقضايا أم للقضايا التي تروق لنا؟
و السؤال الأخير هو الفيصل...عن الشخص المرتبك الذي مازال يجد صعوبة في الدفاع عن المبدأ إلا إذا أحب صاحبه، الباحث عن المظلوم المثالي و الذي يطرح هذه المقارنات كبديل مريح نفسيا و أكثر تحضرا من الفاشية المطلقة التي تبدو قبيحة عتيقة يسخر منها الجميع، فيقف مع المظلومة التي يجلدها المجتمع العقيم -في هذا الجانب فقط- التي تستحق المساندة بدلا من الممثلة المنحلة، كما يقف مع التحرش بشرط ألا تكون الضحية متبرجة و غيرها من أمثلة.
لو أجيز لنا هنا استعمال وصف هذا الشخص بالليبرالي مجازا كنقيض للسلفي الذي سيقف في تحليله عند أول نتيجة مباشرة لا تحتمل التأويل أو المناقشة، فاتخاذه للموقف السابق لن يضيف لقضية المظلومة المثالية جديدا (تأمل أعداد من تظاهروا من أجل فتاة التحرير أو سميرة إبراهيم).
الثابت أن إتخاذ موقف مغاير للمجموع صعبا، مراعاة السياق مربكا، و إعادة تعريف الأخلاق ليس هينا، و الايمان بمطالبة الحق لأنك تستحقه دون تحريض على آخر مجهدا، أما أهمية إتخاذ المواقف الثابتة و التعامل مع الحقائق المركبة و الحوادث المختلفة يقع على عاتقنا نحن -كنساء- مزدوجا إذ يتم استغلالنا كمساحات لتلك المعارك الصغيرة فمن غير الطبيعي الاتفاق مع تلك الآراء المضادة لنا و تشجيعها! لقد صار واضحا أن من يختار الضحية المثالية ليقف بجوارها لن يصعب عليه إيجاد السبب الذي سيبرر به عدم مثاليتِك لو أصبحتِ ضحية!
و هذه الرؤية النسوية للأمر ترتبط بالخطاب المصاحب لكل القضايا المماثلة، فالأمر بوضوح حول المرأة، المساحة التي تتحرك فيها، المهنة التي تختارها، الزي الذي ترتديه، هي كمصدر للغواية، ...الخ هذا لأننا لن نتطرق أبدا لمناقشة أمور الفن أساسا...للأسف!